من مخلَّفات الماضي!

لقد كنت ترى أن الأب يؤذيك وأنت صغير لفعل ما قد فعلته، وترى هذا الفعل لا يتناسب أبداً مع العقوبة، فتبدأ في هذه اللحظة في تكوين رأي تختزنه في عقلك، أنك في المستقبل البعيد عندما تنجب فلن تُعامل أولادك بهذه الطريقة، ولن تعاقبهم بهذا العقاب!
ثم تمضي الحياة، ويتوقف الأب عن العقوبة لأنك كبُرت وتتدرجت ونجحت في عملك بل وأقبلت على التفكير في الزواج وقد نسيت هذه التصرفات من كثرة الانشغالات والمسئوليات.

وعندما تتزوج وتبدأ في تربية طفلك، فإن هذه الآراء المُخَزّنة والأفكار المقموعة منذ زمن طويل، تخرج لحيز التنفيذ، فتبدأ في التيسير والتعامل برفق مع أولادك فتراهم سعداء ومسرورين، ثم بعد فترة تراهم منفلتين بعض الشيء فتقول في نفسك: إنهم أطفال وهذا وقت الانفلات وأنا لا أريد أن أُضيّق عليهم حتى لا يحدث لهم ما حدث لي!
ثم بعد أن يصلوا لسن العاشرة يجد أن الأولاد صاروا أكثر انفلاتاً وصعوبة في التعامل، وكثُرت مشاكلهم داخل وخارج البيت وأعصابه بدأت في الإنفلات، وحينها يقول في نفسه لقد صرت والحمد لله رجلاً ناجحاً في عمله ولى علاقات جيدة مع الناس، ويبدو أن ضرب والدي لي وأنا صغير لم يكن شيئاً سلبياً كما ظننت، بل هو شيء ضروري لتعديل السلوك وضبط الاتجاهات!
فيقرر على حين غفلة تغيير طريقة التعامل مع الأبناء، فيعاقبهم بالضرب الشديد والذي يصل لحد الإيذاء، تيمّناً بالماضي الذي أصبح جميلاً ونافعاً فجأة، ثم يجد أن هذا الإيذاء قد نجح في إسكات الأولاد، وصاروا بعدها خائفين وملتزمين بالتعليمات في العلن!
وفي نفس الوقت أصبحوا تائهين بسبب هذا التناقض الكبير بين الأمس واليوم في طريقة المعاملة، بل وقد تكون هذه المعاملة الجديدة سبباً في الإسراع للخروج عن الطوق الذي يريد والدهم أن يضعه لهم!

يا تُرى ما السبب في هذا التفكير، وهذا التذبذب؟!

إنها المبالغة!
نعم المبالغة في تقدير الأشياء، وأخذ القرارات دون علم ولا استشارة أصحاب الخبرات، فحينها تقع في التناقضات، بل وأحياناً تستسلم للواقع دون أمل في تغييره!

المبالغة في تقدير آثار الماضي يترتّب عليها المبالغة في قرارات الحاضر والمستقبل!

فالصح ألا تبالغ في التقييم، ولا تقيس نفسك على غيرك، ولا تتعامل بنفي العقوبات أو بالمزيد منها تجاه الأولاد، فهذا سيجعلك متذبذباً في التربية، وسيؤثر عليهم سلباً وبشدة، فأقصى اليسار دلع وحماية زائدة تصنع منه شخصية اعتمادية، دائماً يحتاج لغيره، ولديه صفات أخرى سلبية بخصوص المسئولية والشجاعة والتوازن في العلاقات والحياة.
وأقصى اليمين يصنع منه شخصية خائفة جبانة منطوية، أو شخصية مؤذية لنفسه ولمن حوله لأنه عندما يكبُر تكون لديه المشاعر المكبوتة والتي يصرّفها في إيذاء الجميع!

فلا تبالغ في التقييم، ولا تبتعد عن الوسطية، ولا تكن معاقباً لأولادك طول الخط، ولا تتركهم بلا عقاب طوال الوقت، لأن التوازن هنا مهم، ولكن النصيحة الكبرى لك: أن تقرأ أو تسمع أو تستشير متخصصاً في هذا المجال حتى لا تُعيد صناعة الماضي بآلامه وأفراحه "وبتناقضاته" على أرواح خُلقت في بيئة مختلفة معقدة حيث المادية والنفعية والانترنت وانتشار الشبهات والشهوات، وسيطرة التقليد للمشهورين والذين يكسبون المال بحركات البهلوان!
والله أعلم
د. محمد سعد الأزهري

Comments

Be the first to add a comment